المسكونية (الجزء الأوّل)

منشورات دير البراكليت - اليونان

ترجمة: نديم سلوم

صفحة القدّيس غريغوريوس بالاماس

 

 

 

المقدِّمة

الكنيسة الأرثوذكسيَّة، بِطبيعتِها، هي جامِعة ومسكونيَّة بَديهيًّا (عالميَّة). تُرَحِّب بِأذْرُعٍ منفتحة بجميع الناس، من كل الأعراق وفي كل الأزمان، وتدعوهم للمجيء إليها. يخاطب المسيحُ، الذي هو الرأس، العالمَ طوال الوقت: تَعالوا إليَّ جميعكم، وفي الوقت نفسه يُرسِل تلاميذه ليبشِّروا بإنجيل الخلاص لجميع الأمم.

هذه الميزة المُتَأصِّلة للكنيسة، المسكونيَّة أو العالمَيَّة، تتنازع عليها اليوم حَركتان تعبِّران عن روح العَصر: المسكونيَّة والعَوْلَمَة.

تُعَزَّز العَوْلَمَة من القوى السياسيَّة – الإجتماعيَّة، وتُنْتِج نموذجًا لِبَشَرِيَّة مُوَحَّدة، بينما تَنشط المسكونيَّة في القطاع الدِّيني، وتحاول تحقيق رؤيةً لمسيحيَّة موحَّدة وتهدف في نهاية المطاف إلى ديانةٍ واحدةٍ عالميَّة، "ديانة شامِلة".

في هذا البحث، سنحاول تقديم مُلَخَّص عن الحركة المسكونيَّة، التي تشارك فيها الكنيسة الأرثوذكسيَّة، حيث أنَّ طبيعتَها وعَمَلَها لا يزالان مجهولَيْن لمعظم الكنيسة، وقد أثارت بعض التَّطوُّرات داخل الدوائر المسكونيَّة القلقَ والمخاوفَ.

قد يبدو الأمر غريبًا، لكن بالحقيقة إنَّ المسكونيَّة اليوم تُهَدِّد "الطبيعة المسكونيَّة" لكنيستنا، حيث أنَّ عَمَلَها يَكمُن في الأساليب التَّوفيقيَّة والمساومة التي تتناقض مع المبادئ الأساسيَّة لإيماننا الأرثوذكسي. يجب ألاَّ ننسى أنَّ الإيمانَ الحقيقيَّ هو الشرطُ الأوَّل والأهَمّ لخلاص الجنس البشريّ، وفقًا للإعلان الآبائيّ المُلهَم به إلهيًّا: "كلّ من يرغب في الخلاص هو مُلْزَمٌ أوَّلاً بالحفاظ على الإيمان الجامِع؛ إذا لم يحافظ على هذا الإيمان بأمانَة ومن دون شائبة، ومن دون تَرَدُّد، سوف يَضُلُّ إلى الأبد" (قانون إيمان القديس أثناسيوس الإسكندري).

هكذا، إذا كانت الرسالة الخلاصيَّة للأرثوذكسيَّة مُشَوَّشة وضائعة بين الرسائل المُغرِيَة لغير الأرثوذكس والدِّيانات غير المسيحيَّة، من أجل رؤية مسكونيَّة وهميَّة، عندها سيضيع رجاء العالم أيضًا.

 

المسكونيَّة

المسكونيَّة هي حركة هَدَفُها العمل على وحدة العالم المسيحي المنقسم (أرثوذكس وكاثوليك وبروتستانت وغيرهم). تُثير فكرة الوحدة عواطِف كلّ مسيحيّ وتتوافق مع رَغْبتِه الشَّديدة بها. هذه الفكرة تُدعى بالمسكونيَّة. بالرغم من ذلك، هذه النظرة التَّوحيديِّة للمسكونيَّة، البعيدة كلّ البعد عن الحياة الروحيَّة، مُرتكِزة على المنطق البشريّ وليس على عمل الروح القدس الذي هو وحده يستطيع، مع توبة الإنسان وتواضعه، أن يجعل هذه الرؤية حقيقة.

 

المسكونيَّة المُعاصِرة

تعود جذور المسكونيَّة المُعاصِرة الى القرن التَّاسع عشر مع البروتستانت. في ذلك الوقت، اضطُرَّت بعض الجماعات المسيحيَّة، التي كانت تُواجِه مشكلة مُغادَرة أعضائها لها بسبب التَّنامي في اللامبالاة بالدِّين والحركات المُعادِية للدِّين، للعمل والتَّعاون مع بعضها البعض.

أخذ هذا العمل الإتِّحادي شكلاً مُنَظَّمًا بما يُعرف بالحركة المسكونيَّة في القرن العشرين وخاصةً سنة 1948مع إعلان أمستردام حيث أُعلِن عن تأسيس مجلس الكنائس العالمي (WCC) ومَقَرُّه في جنيف.

من الضروري أن نذكر أنَّ مجلس الكنائس العالميّ لا يمكنه أبدًا أن يأخذ صِفَة مسكونيَّة، بل سيبقى مُجَرَّد شأن داخليّ بروتستانتيّ بالرغم من مشاركة بعض الكنائس الأرثوذكسيَّة فيه. بدايةً، رفض الكاثوليك المشاركة. أمَّا لاحقًا، فقد أصبحوا جزءًا من الحركة المسكونيَّة من دون أن يكونوا أعضاءً في مجلس الكنائس العالمي. قاموا في المجمع الفاتيكاني الثاني (1964)، بتأليف نسخة خاصة بهم عن المسكونيَّة هَدَفُها وحدة المسيحيِّين تحت هيمنة البابا.

 

المشاركة الأرثوذكسيَّة في الحركة المسكونيَّة

يجب أن نعرف أنَّ البطريركيّة المسكونيَّة (القسطنطينيَّة) لَعِبت دورًا بارزًا في إنشاء الحركة المسكونيَّة. يتبيَّن هذا لنا من خلال إعلان عام 1920 الذي كان الأساس في مشاركة الأرثوذكس في الحركة المسكونيَّة.

لم يسبق في تاريخ الكنيسة مِثل هذا الإعلان حيث أُطلِقَ للمرة الأولى على الجماعات الهرطوقيَّة التي في الغرب اسم "كنائس" باعتبارها جزءًا من جسد المسيح و"أنَّ الأمم شركاء في الميراث والجسد ونَوال موعده في المسيح" (أفسس3: 6). هذا الكلام ينتهك ويُطيح بالإكليزيولوجيا الأرثوذكسيَّة. من أجل تَجَنُّب ذِكرِ فَتَراتٍ ماضية، يكفي أن نذكر هنا أنَّه قبل سنوات قليلة (1895)، قامت البطريركيَّة ذاتها في إحدى رسائلها، بتصنيف البابويَّة على أنَّها خارج الكنيسة لأنَّها أدْخَلَت تعاليمَ وابتكاراتٍ هرطوقيَّة. كما طالبت المسيحيِّين الغربيِّين بالعودة إلى الكنيسة الوحيدة أي إلى الأرثوذكسيَّة.

اقترح إعلان عام 1920إنشاء جَمْعِيَّة بين الكنائس، على نَسَق عصبة الأمم، وأهدافها الرئيسيَّة:

1- إعادة النظر في الخلافات العقائديَّة بطريقة هادئة.

2- الموافقة على تقويم كنسي مُوَحَّد (لسوء الحظ، نتج عنه انقسام أرثوذكسي).

3- عقد مؤتمرات مسيحيَّة عامَّة.

باستثناء البطريركيَّة المسكونيَّة، طلبت كلّ الكنائس الأرثوذكسيَّة تقريبًا، وبشكل تدريجيّ، أن يُقبَلوا في مجلس الكنائس العالميّ، وفي النهاية تمَّ قُبولها كأعضاء. ولكن مع الوقت انسحب البعض منها بعدما لاحَظوا خَيْبة الأمل وانحطاط الحركة المسكونيَّة من جهة، ومن جهة أخرى تعرَّضتْ للضغط من قبل شعبها المُعادي للمسكونيَّة. يسأل هنا المرء: "كيف يمكن للأرثوذكسيَّة أن تكون عُضوًا في "شيء" وفي الوقت عينه هي "المِلء"، أي جسد المسيح، وهي تدعو الكلّ أن يصبحوا أعضاءً فيه؟".

في جميع الأحوال، إنَّ وجود الكنائس الأرثوذكسيَّة في اجتماعات مجلس الكنائس العالميّ كان دائمًا هَشًّا وغير مُجْدٍ و"للزينة" فقط، نَظَرًا لطريقة تَنظيمها وعَمَلِها. تُصاغ قرارات مجلس الكنائس العالميّ من قِبَل الأغلبيَّة الساحقة للتَّصويت البروتستانتي. بالطبع، حتى العام 1961، كان الأرثوذكس يُقَدِّمون في الجمعيَّات العموميَّة تصاريح مختلفة – بعضها يشكِّل إعترافات تاريخيَّة للإيمان - كمُمَثِّلين عن الكنيسة الواحدة الجامعة المقدَّسة الرسوليَّة.

تعامل الأرثوذكس مع الإنفتاح المسكونيّ الحاصل في المجمع الفاتيكانيّ الثاني بشكل إيجابيّ، وخاصَّة الناطق الرسميّ البطريرك المسكوني أثيناغوراس. التقى البطريرك مع بابا روما بولس السادس في أورشليم سنة 1964، واتَّفَقا على إزالة حرومات العام 1054، وشجَّعا على "حوار المحبة" وهكذا يُعَزِّزان أهداف المجمع الفاتيكانيّ الثاني.

 

"الإقتراحات" النظريَّة للمسكونيَّة

من أجل إنجاز أهدافها، أُجْبِرَت المسكونيَّة على إعادة النظر أو حتَّى التَّغاضي عن بعض المبادئ الأساسيَّة للأرثوذكسيَّة. رَوَّجت المسكونيَّة لفكرة "الكنيسة المُوَسَّعة" أو "المُتَحَرِّرة" حيث أنَّ الكنيسة هي واحدة وتتألَّف من المسيحيِّين من جميع الطوائف من اللحظة التي يعتمدون فيها. بهذه الطريقة، يمكن أن نُطلِق على الطوائف المسيحيَّة لقب "كنائس شقيقة".

ضمن هذا النهج ذاته، وُجِدَت نظريَّة "الكنيسة العالمَيَّة المَنظورة". المَقصود بهذه النظريَّة أنَّ كنيسة "غير منظورة" تتكوَّن من جميع المسيحيِّين ستَظْهَر بِأبْعادِها المنظورة من خلال مختلف الجهود للإتِّحاد.

تشكَّلت وتأثَّرت هذه الأفكار بنظريَّة بروتستانتيَّة إسمها "نظرية الأغصان" حيث أنَّ الكنيسة شجرة والطوائف المسيحيَّة تُشِكِّل أغصانها، وكلّ غصن يحمل قِسمًا من الحقيقة.

يجب أيضًا أن نذكر نظريَّة "الرئتَيْن" التي أطلقها الأرثوذكس المسكونيُّون والبابويُّون. بحسب هذه النظريَّة، تشكِّل الأرثوذكسيَّة والبابويَّة الرئتَيْن اللتَيْن تتنَفَّس بهما الكنيسة. لكي تستطيع الكنيسة أن تتنَفَّس بشكل صحيح ثانيةً، يجب على الرئتَيْن أن تتوافقا في تنفُّسهما.

أخيرًا، من بين الطُّرُق التي يستخدمها المسكونيُّون للتَّقارب بين المسيحيِّين هي "التَّبسيط العقائديّ"؛ وهي محاولة للحَدِّ من العقائد حتَّى أقلّ درجة ممكنة بُغيَة تجاوز الخلافات بين الطوائف. النتيجة هي التَّغاضي عن العقائد، لتقليل وتقليص أهميتها. يقولون "دَعوا المسيحيِّين يتَّحدون"، "أما اللاهوتيُّون فليتناقشوا لاحقًا في العقائد!". بواسطة "التَّبسيط العقائديّ" يُصبح من السَّهل على المسيحيِّين أن يتَّحدوا. ولكن، هل يمكن لهكذا مسيحيِّين أن يكونوا أرثوذكس، أي مسيحيِّين حقيقيِّين؟

 

المفهوم الأرثوذكسيّ للكنيسة

بالنسبة للمفهوم الإكليزيولوجيّ الأرثوذكسيّ، الكنيسة والأرثوذكسيَّة هما واحد. ممَّا لا شك فيه، أنَّ الكنيسة هي أرثوذكسيَّة والأرثوذكسيَّة هي الكنيسة الواحدة الجامعة المقدَّسة الرسوليَّة، جسد المسيح. وبما أنَّ المسيحَ واحدٌ فالكنيسة هي أيضًا واحدة. لذلك الانقسام في الكنيسة غير ممكن. يوجد فقط إنفصال عن الكنيسة. لهذا في محطات تاريخيَّة مُعَيَّنة، قَطَعَ الهراطقة والمُنشقُّون أنفسهم عن الكنيسة وهكذا لم يعودوا أعضاء فيها.

تملك الكنيسة ملء الحقيقة، وليس حقيقة مُجَرَّدة، بل طريقة حياة تنقذ الإنسان من الموت وتجعله إلهًا بالنعمة. بالعكس، الهرطقة هي رفض كُلِّي أو جُزئي للحقيقة، تُمَزِّقها الى عدَّة أجزاء وتأخذ على عاتقها طابع "المرض الإيديولوجيّ". تفصل الهرطقةُ الإنسانَ عن الحياة التي غَرَسَها الله لكنيسته وتقضي عليه روحيًّا.

علاوة على ذلك، العقائد التي تبرز حقائق إيماننا المُتَفَوِّق ليست أفكارًا مجرَّدة أو نظرية في ذهننا، كما أنها ليست نتائج لِظَلاميَّة القرون الوسطى أو اللاهوت السكولاستيكيّ، بل بالأحرى تُعَبِّر عن خبرة الكنيسة وحياتها. لذلك عندما نجد اختلافًا في العقيدة سيحصل بالتَّأكيد اختلاف في نمط الحياة. إذًا، كلّ من يستخف في دِقَّة (akrivia) الإيمان لا يمكنه أن يعيش ملء الحياة في المسيح.

يجب على المسيحيّ أن يقبل كلّ ما كشفه المسيح. ليس الحدّ الأدنى، بل بكامله. لذلك كمال الإيمان يصون جامعيَّة الكنيسة واستقامتها.

هذا يشرح جهادات الآباء القديسين حتى الدَّم لحماية إيمان الكنيسة، بالإضافة إلى المصطلحات التي صاغوها في المجامع المسكونيَّة باستنارة الروح القدس. هذه المصطلحات ليست سوى "النقاط النهائيَّة"، ما يعني حدود الحقيقة، لكي يستطيع المؤمن أن يميِّز الكنيسة الأرثوذكسيَّة عن الهرطقة.

يفصل غير الأرثوذكس أنفسهم عن الكنيسة بِرَفْضهم ملء الحقيقة، لذلك يُدعَون بالهراطقة. لا يملكون نعمةَ الروح القدس وأسرارهم باطلة. بالتَّالي، معموديَّتهم غير معترف بها في كنيسة المسيح.

القانون 68 من قوانين الرسل: من ينال المعمودية أو السِّيامة من قبل المُبْتَدِعين لا يُعَدّ من المؤمنين ولا من الإكليريكيِّين. يضيف القديس نيقوديموس الآثوسيّ: المعموديَّة لدى الهراطقة هي فاسدة ولا شركة لها على الإطلاق مع معموديَّة الأرثوذكس.

 

على كل حال، ماذا يقول لنا الأرثوذكسيُّون المسكونيُّون؟

يعلن أحد الزعماء الأرثوذكس أنَّ "الروح القدس يعمل في كل معموديَّة مسيحيَّة"، وأنَّ إعادة معموديَّة المسيحيِّين غير الأرثوذكس هو "إنغلاق وتَطَرُّف وتَعَصُّب أعمى... هذا يُعتبر ظلم ضدَّ المعموديَّة المسيحيَّة وبالتَّالي تجديف على الروح القدس[1]."

يصرِّح زعيمٌ آخر مُتَوَجِّهًا إلى غير الأرثوذكس "كُلّنا أعضاء في المسيح، الجسد الواحد والوحيد، "الخليقة الجديدة" الوحيدة والفريدة،  بما أنَّ معموديَّتنا المشتركة قد أنقذَتْنا من الموت[2]."

وبذات الطريقة، صرَّحَت الإكليزيولوجيا المسكونيَّة رسميًّا ما يلي: "نحن مجبورون أن نستَعِدَّ لكي نبحث ونعترف بوجود كنيسة خارج حُدودِنا القانونيَّة المعروفة بالكنيسة الواحدة الجامعة المقدَّسة الرسوليَّة[3]."

علاوة على ذلك، هناك أولئك الذين هم أكثر جُرأةً، الذين يتصوَّرون إعادة تأسيس الكنيسة من خلال وحدة المسيحيِّين. يصرُّ أحد الزعماء الأرثوذكس أنَّه "نحتاج إلى مسيحيَّة جديدة مَبْنِيَّة على مفاهيم وقِيَم جديدة. لا يمكننا أن نُعَلِّم هذا النوع من الدِّيانة التي سُلِّمت إلينا الى الأجيال اللاحقة[4]."

 

http://www.thevoiceoforthodoxy.com/ecumenism/

 

 


[1]مجلَّة The Illuminator، صيف 1995، بيتسبرغ، الولايات المتَّحدة الأميريكيَّة.

[2]مجلَّة“Episceyij”، رقم 370، ص9، جنيف 1987.

[3]مجلَّة“Episceyij”، رقم 260، ص13-14، جنيف 1981.

[4]جريدة أثينائيَّةEstia” ، 5-10-1967.