كهنوت المرأة

للأرشمندريت غريغوريوس إسطفان

رئيس دير رقاد السيّدة في بكفتين

من كتاب "سرّ الكهنوت"

 

الكلام على كهنوت المرأة ليس جديدًا بالكلّيّة في التّاريخ المسيحي. فالبِدَع الغنّوسيّة المختلفة قبِلَت ضمن طغماتها الكهنوتيّة نساءًا كهنة وأساقفة أيضًا. على مثال الديانات الوثنيّة القديمة التي كان لها كهنة نساء لآلهة نساء. "وهذا دليل واضح على أنّ إقصاء المرأة عن الكهنوت لم يكن أبدًا، كما يدّعي كثيرون، لأسباب أو ظروف ومفاهيم إجتماعيّة تتعلّق بالمرأة وكانت سائدة في ذلك الزمن."

المرأة في المسيحيّة أُقصِيَت عن الكهنوت، لكنّها لم تُقصَ عن الخدمة الكنسيّة. العهد الجديد يذكر نوعَين من خدمة النّساء: الشّمّاسات والأرامل. أمّا الشّمّاسات فكان عملهنّ زيارة المرضى والمحتاجين ومساعدة الأسقف في معموديّة النّساء، يذكر بولس الرسول فيبي الشّمّاسة في رو (16: 1-2). والأرامل يذكرهنّ بولس الرسول أيضًا في (1 تيم 5: 3). "وهذا دليلُ أيضًا على أنّ عدم إدخال الكنيسة للمرأة في طغمتها الكهنوتيّة، لم يكن لأسباب خارجيّة تتعلّق بثقافة ذلك الزمان، إنّما لأسبابٍ جوهريّة سنأتي على ذِكرها."

هكذا نأتي إلى وعي حقيقة أساسيّة: أنّ الكنيسة منذ البدء، "استطاعت أن تحفظ نفسها من روح العصر الذي كانت تعيش فيه، وهي مدعوّة اليوم أيضًا، لِتَحفظ نفسها خارج دائرة انحراف هذا العصر."

فالكهنوت يبقى في الكنيسة سرًّا إلهيًّأ، خدمة للّيتورجيا الإلهيّة، "وليس خدمة إجتماعيّة". لهذا كلّ كلامٍ على كهنوت المرأة، في منظورها، يشكّل انحرافًا عقائديًّا جوهريًا لسببَين رئيسيَّين:

١- لأنّه لا يتّفق مع تقليدها المقدَّس كلّه، بما فيه تعليم الكتاب المقدّس.

٢- لأنّه يُشكّل انحرافًا لاهوتيًّا، عبر معاكسته لما سمّته "القوانين الرسوليّة"، ترتيب أو تسلسل الطبيعة. (القوانين الرسوليّة. (القوانين الرسوليّة، 3,9 Ante-NPNF.7, P.429)

إنّ طبيعة الكنيسة المُرتَكِزة على المسيح كرأسٍ لها، "والذي بِدَورِهِ سلّم هذه الوظيفة الكهنوتيّة لِرُسُلِه كرجال"، عند تأسيس سرّ الشّكر في العشاء الأخير، شكّل للكنيسة قاعدة أساسية استندت عليها كتقليد، في مواجهتها لموضوع كهنوت المرأة. فالعهد الجديد ميّز بوضوح، مستندًا على ما كانت تعيشُهُ الكنيسة، بين تساوي الطبيعة بين الرجل والمرأة، وبين التراتبيّة المواهبيّة  لكلٍّ منهما في هذه الخليقة.

بولس الرسول في رسالتِهِ إلى أهل غلاطية يقول: "لأنّ كلّكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح. ليس يهوديّ ولا يونانيّ. ليس عبدٌ ولا حُرٌّ، ليس ذَكّر ولا أنثى لأنّكم جميعًا واحد في المسيح يسوع" (3: 27-28). في هذا القول، يتكلّم الرسول حصرًا على تساوي الطبيعة البشريّة بين كلّ من هو مخلوق على صورة الله ومثالِه. أي بين الرجل والمرأة، اللّذان يصيران واحدًا في تلقّيهما عبر المعموديّة كلّ ثمار عمل المسيح الخلاصيّ.

لكنّ بالنّسبة إلى بولس أيضًا، هذا التّساوي في الطّبيعة، أي كهنوت جميع المؤمنين الملوكيّ، لا يلغي مكانة ودور كلٍّ منهما في ترتيب الخليقة، لها يقول في مكانٍ آخَر: "إنّ رأسَ كلّ رجُل هو المسيح وأمّا رأس المرأة فهو الرجل ورأس المسيح هو الله (1 كو 11: 3). وهو هنا يوضّح مكانة كلّ من الرجل والمرأة، المحدّدة منذ البدء إلهيًّا، في نظام الخليقة قبل السّقوط، والتي استُعيدَت، أي هذه المكانة، في الكنيسة بعد تجديد المسيح لهذه الخليقة.

هذه العلاقة يعود بولس الرسول بجذورِها إلى الثالوث القدّوس. فالتراتبيّة الأزليّة لأشخاص الثالوث وعلاقتهم ببعضهم البعض، هو نموذج عن علاقة الرجل والمرأة ودور كلّن منهما في هذه الخليقة. أي رغم أنّ الإثنَين هما على صورة الله ومثالِه، مُتساويان في الطّبيعة، على مثال وحدة طبيعة المسيح والله، فإنّ الرجل يعكس على الصّعيد البشريّ ما يعكُسُه الله الآب على الصّعيد الإلهيّ. دور الرجل كرأس في هذه الخليقة، يُشدّد عليه أكثَر بولس الرسول، في المقطع ذاتِه حين يذكُر عن الرجل أنّه "صورة الله ومجدِه وأمّا المرأة فهي مجد الرجل. لأنّ الرجل ليس من المرأة بل المرأة من الرجل. ولأنّ الرجل لم يُخلَق من أجل المرأة بل المرأة من أجل الرجل"، لهذا يطلب من المرأة أن تُغطّي رأسها (1 كو 11: 7-13). هذه التّغطية، يطلبها الرسول، ليس لأنّها كانت تُشكّل عادة إجتماعيّة في ذلك الزمان، إنّما بالتّحديد لأنّ تغطية المرأة لرأسها يُعَبّر عن خضوعها للرجل. هذا الخضوع لا يعني إطلاقًا عبوديّة المرأة للرجل، إنّما خضوعها لمشيئة الله عبر اعترافها بأوّليّة الرجل في هذه الخليقة.

هكذا يُثبّت بولس الرسول في العهد الجديد مكانةَ كلّ من الرجل والمرأة في ترتيب نظام الخليقة، هذا الذي كان منذ البدء. فالمرأة جُعِلَت "مُعينًا" للرجل (تك 2: 18). وبعد السّقوط مباشرةً حدّد الله لها تلك المكانة: "إلى رَجُلِكِ يكون اشتياقكِ وهو يسود عليكِ" (تك 3: 16). هذه الحالة، حالة سيادة الرجل على المرأة، وأن كان الله قد حدّدها لها بعد السّقوط، والتي كان ينبغي أن تُبطَل بعد تجديد الخليقة بالمسيح، لا بدّ من أنّها كانت موجودة هي ذاتها قبل السّقوط، لكنّ في حالة اللّاهوى والتّناغم الروحيّ التّي كان يعيشها الإثنان قبل المعصية. فالله لم يبتدع للإنسان الأوّل حالة خاصّة بعد السّقوط لم تكن موجودة قبله، كالعمل والخضوع والتّكاثر، لكنّ كلّ شيء كان يتمّ بدون تعب وبدون تسلّط وبدون ألم. بعد السّقوط دخلَت حالات الضعف والأهواء البشريّة. هكذا نفهم كيف أنّ كلمة "يسود" ، بعد السّقوط، تعني الأمر ذاته الذي كانت تعنيه كلمة "معين"، قبل السّقوط، لكنّ في حالة الهوى.

عن هذا الخضوع ، الذي استمرّ في عهد النّاموس، يُذَكّر بولس الرسول المؤمنين، أنّه يبقى في العهد الجديد: " لِتَصمُت نساؤكم في الكنائس لأنّه ليس مأذونًا  لهنّ أن يتكلّمنَ بل يخضعنَ كما يقول النّاموس أيضًا" (1 كو 14: 34). منعُ المرأة هذا وبشدّة، من التّعليم في الكنيسة أثناء العبادة، يدخل ضمن هذه التراتبيّة المقدّسة لمكانة ودَور كلّ فرد في خليقة الله. لهذا، الخضوع، وليس العبوديّة، يوضّح بولس الرسول في رسالة أفسس (5: 22-33)، معناه وبُعدُه المقدّس. وذلك حين يطلب من المرأة أن تخضع للرجل، "كما تخضع الكنيسة للمسيح"، أي كما يخضع الجسد للرأس. عن هذا المقطع الإنجيليّ، الذي يُعطي الرجل دور الرأس أي المسيح، والمرأة دور الجسد أي الكنيسة.

يقول القدّيس "غريغوريوس اللّاهوتيّ": " أنّه حسنٌ على المرأة أن تحترم المسيح عبر رجُلِها. وأنّه حسنٌ على الرجل أن لا يزدري الكنيسة عبر امرأته".

في تعليم آبائنا، هذه العلاقة بين المسيح والكنيسة هي النّموذج الحقيقيّ للعلاقة الكاملة بين الرجل والمرأة. فالمسيح هو معلّم الجسد وراعيه، وهكذا ينبغي أن يكون دور الرجل بالنّسبة إلى المرأة. يبقى أنّه رغم هذه التّراتبيّة والمكانة الوظائفيّة التي لكلّ من الرجل والمرأة في نظام خليقة الله، فإنّ الإثنان هم واحد في الربّ، "الرجل ليس من دون المرأة ولا المرأة من دون الرجل في الربّ" (1 كو 11: 13). وهذا واضح في تكريم الكنيسة للمرأة، بدءًا من العذراء مريم وحاملات الطّيب، وصولاً إلى كلّ هذه السّحابة من القدّيسات والبارّات من جميع طبقات المجتمع، وحتّى فب اعتبار بعضهنّ "معادلات للرسل".

لقد شدّدت الكنيسة منذ البدء، على أنّ خدمة المؤمن تكون بحسب مواهبه، لهذا أعطت للمرأة دورًا في كلّ مجالات حياتها، في الخدمة والتّعليم والبشارة كما أعطت للرجل ، ما عدا الكهنوت الأسراريّ. وهذا يدلّ على أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة الجامعة لم تكُن يومًا كنيسة كهنوتيّة، بمعنى تشديدها على دور الرجل الكهنوتيّ، على حساب مواهب المؤمنين الآخرين. هذا كان الفكر البابويّ الكاثوليكيّ الذي ساد في تاريخ القرون الوسطى، والذي أورثته للعقليّة الغربيّة بأجمعها. لهذا نظر الكثير من اللّاهوتيّين اليوم، على أنّ الدعوة إلى كهنوت المرأة وانتشاره في الغرب، له سببان أساسيّان:

-          أوّلاً: إنّه ردّة فعل على الإنحراف البابويّ في الفكر اللّاهوتيّ، والذي يُظهِر كَم أنّ هذا الموضوع القديم ما زال حيًّا، حتّى اليوم، في لاوعي ضميرهم الدّاخليّ.

-          ثانيًا: التأثّر بروح هذا الدّهر وفكر هذا العصر، كنتيجة حتميّة للابتعاد عن التّقليد العقائديّ والنّسكيّ الكنسيّ.

 

أمّا هؤلاء الذين يشدّدون على "الكتاب وحده"، كشفت أعمالهم الأخيرة أنّ هذا الكتاب الذي يبنون عليه إيمانهم ولاهوتهم وحياتهم، ليس الكتاب، الذي قال عنه بولس الرسول، أنّه كلّه موحى به من الله" (2 تيم 3: 16)، الذي كَلِمَتُهُ لا تتغيّر بتغيُّر الظروف والأزمنة، إنّما "إنجيلٌ آخر"، لأنّه عن مثل هؤلاء قال الرسول أنّهم "يحوّلون إنجيل المسيح" (غلا1: 6-7).

فإنّهم بقبولهم بكهنوت المرأة ، نقضوا، لا تقليد الكنيسة فقط، إنّما أيضًا كلّ تعليم الكتاب المقدّس، الذي يدّعون أنّ كنائسهم مؤسّسة عليه. وهُم بذلك يكونون قد طردوا الروح القدس من "الكتاب وحده"، الذي أوحى "كلّ الكتاب"، وجعلوا مكانه روحًا آخر من روح هذا الدّهر.

هذا اللّاهوت، الذي شدّد على كون الكهنوت لم يُعطَ للمرأة بل للرجل، كان يمارَس في الكنيسة الأولى وعبّرَت عنه بوضوح "القوانين الرسوليّة" هكذا: "بما أنّ الرجل هو رأس المرأة وهو، منذ البدء، قد شُرطِنَ للكهنوت، ليس موافقًا أن نتعدّى ترتيب الخليقة بإهمالنا الرأس والتّوجّه نحو الجسد الذي يأتي بعده. حقًّا، المرأة هي جسد الرجل لأنّها صُنِعَت من جَنبِه، ولهذا فهي تخضع له، تنفصل عنه لأجل ولادة الأولاد. الله هو من قال: "يسود عليكِ" (تك 3: 16). حقًّا، الرجل له السّلطة على المرأة لأنّه رَأسها، أيضًا. وبما أنّ الله لم يسمح للنّساء في القديم أن يٌعَلّمنَ، فكيف يسمح لهنَّ أحدهم أن يصِرنَ كهنة، الأمر الذي هو ضدّ طبيعتهنّ؟ جهلٌ كهذا يناسب جحود اليونانيّين (الوثنيّين) الذين يُشرطنون كهنة نساء لآلهة نساء، لكنّ هذا لا يتّفق مع أحكام المسيح.

(القوانين الرسوليّة، 3,9 Ante-NPNF.7, P.429)