عظة الأرشمندريت غريغوريوس رئيس دير رقاد والدة الإله – بكفتين

أحد السامريّة

26-5-2019

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

يصادف اليوم أحد المرأة السّامريّة. تكلّمنا في المرّة السابقة عن ثلاثة آحاد، أي أحد المخلَّع وأحد السامريّة وأحد الأعمى. نجد هنا شفاءات ومياه، أي إشارة إلى المعموديّة التي نعيش، من خلالها، كلّ العمل الخلاصيّ الذي أتمَّه المسيح من أجلنا.

يُخبرنا إنجيل اليوم عن حوارٍ دار بين يسوع المسيح وإمرأة سامريّة. السامريّون شعبٌ من أصلٍ يهودي، عاشوا في فلسطين. أسّس داوود الملك مملكت إسرائيل ألف سنة قبل المسيح، واستمرَّت هذه المملكة مع إبنه سليمان الحكيم. حدث لاحقًا انشقاقٌ في هذه المملكة، فسمّيَت مملكة الشمال بإسرائيل، ومملكة الجنوب بيهوذا حيث سكن سبط يهوذا أحد أسباط إسرائيل الإثني عشر. سبى نبوخذنصّر يهود الشمال إلى بابل، وأسكن مكانهم شعوبًا وثنيّة إختلطت مع اليهوديين الذين بقوا في مدينتهم، ما أدّى إلى تأثر اليهود بعادات وثنيّة. عندما عاد اليهود يعد السّبي وسكنوا في إسرائيل، لاحظوا عادات السامريين الغريبة عن التقاليد اليهوديّة. نشبت إثر ذلك عداوةً كبيرة بين الشّعبين، وصلت إلى حدّ رفض اليهوديين مخالطة السامريين كما نرى في الإنجيل. حتى انّهم اتّهموا المسيح قائلين: "إنّك سامريّ وبك شيطان" (يو8: 48)، ما يدلّ على حقد اليهوديين للسامريين.

بدايةً، طلب يسوع المسيح من المرأة السامريّة ماءً ليستقي، فأبدت المرأة استغرابًا أمام ذلك الطلب، إذ لم يكن معتادًا أن يطلب اليهوديون شيئًا من السامريين. لكنّه حوّل الكلام عن الماء الماديّ الذي يروّي الجسد إلى الماء الحيّ الذي "من يشرب منه لا يعطش إلى الأبد" (يو4: 14)، لكنّ السامريّة لم تفهم ذلك في البداية. إنّه يحدّثها عن الحياة الأبديّة، عن الإيمان الحقيقي به، فمن يشرب من هذا الماء، أي من هذا الإيمان، لا يعطش إلى الأبد. هكذا نقل الرَّب الموضوع من العبادة الجسدية إلى العبادة الرّوحيّة. فقالت له المرأة "آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إنّ في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يُسجد فيه" (يو8: 20)، هذا الجبل هو جبل جرزيم حيث كان السّامريّون يعبدون الله. فنقلها المسيح مجدّدًا من العبادة الجسديّة إلى العبادة الرّوحيّة قائلًا "تأتي ساعةٌ، لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أمّا نحن فنسجد لما نعلم. لأنّ الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعةٌ وهي الآن، حين الساجدون الحقيقيّون يسجدون للآب بالرّوح والحقّ، لأنّ الآب طالبٌ مثل هؤلاء الساجدين له" (يو4: 21-23). حوّل المسيح عبادتنا الجسديّة، الخارجيّة، إلى عبادةٍ روحيّة، داخليّة. ذلك لأنّ "الله روحٌ. والذين يسجدون له فبالرّوح والحقّ ينبغي أن يسجدوا"(يو4: 24).

عبادة الله هي الأساس. تعتمد كلّ مسيرتنا نحو الخلاص على طريقة عبادتنا لله. لا يجب أن نعبد الله خارجيًّا فقط، فالعبادة ليست واجبًا علينا أن نتمّه، وإلّا أصبحت شكليّات مجرَّدة. العبادة بالرّوح هي كيفيّة تغيير قلب الإنسان ليعبد الله بروحه. ليست الأعمال الخارجيّة، وإن كانت حسنة، أساس عبادتنا لله. ولا حضورنا في الصلوات هو دلالة لعبادتنا الحسنة. ينبغي أن يشعر الإنسان بنعمة الله بروحه وبجسده حينما يقف للصلاة، وأن يوّجّه كل ّكيانه نحو الله. هذا هو جهادنا الحقيقي، أن تصرخ الرّوح نحو الله، وأن يهتف قلبنا إليه ويشعر بحضوره، هكذا نكون عابدين لله بالرّوح والحقّ. المسيح وحده يعطينا هذه النعمة، نعمة العبادة الحيّة، عندما نسعى إليه بإيمانٍ صحيحٍ، مترفّعين عن كلّ غايةٍ بشريّة، وساعين لخلاص نفوسنا. هذا يعلّمنا أنّ نحبّ الله قبل كلّ شيءٍ دنيويّ. لا يجب أن نحيد عن هذه العبادة بالرّوح، منشغلين بأشياءٍ دنيويّة، لا معنى لها. فالله يريدنا أن ننتصب أمامه، أن نصرخ إليه، وأن نركع أمامه ذارفين الدّموع، دموعًا تعبّر عن شوقنا للقياه.

لا ترتكز عبادتنا لله على الطلبات، فالمرأة السّامريّة طلبت الماء الحيّ من الرَّب "يا سيّد أعطني من هذا الماء"، لكنّها أساءت فهمه، إذ ظنّت أنّه ماء سحريّ "لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي". لكنّ الماء الذي يقدّمه المسيح هو ماء الحياة الأبديّة. لكن لا يمكن الحصول عليه دون تعبٍ وجهاد. نحن نبتغي المسيح، لكنّنا نهتمّ لراحتنا. من أراد أن يجد المسيح عيه أن يجاهد بالصلاة والصوم وسائر الجهادات الرّوحيّة التي تنمّيه بالرّوح. هكذا يسجد الإنسان الرّوحانيّ لله بالرّوح والحقّ. كلّ ما يصنَّع في العالم، يهدف إلى إراحة الجسد، وحين نقرأ في الإنجيل أنّه علينا أن نتعب قليلًا، نشعر بالعبء. ينبغي علينا أن نرفع عقولنا من التفكير الدنيوي، التفكير بالملذّات، وأن نحافظ على تعبنا الذي نقدّمه للمسيح، لأن هذا التعب وحده قادرٌ على انتشالنا من أهواء هذا العالم.

راحة الجسد تقود إلى البطالة، والبطالة تقود إلى كلّ أنواع الخطايا. من أراد أن يسلك بحسب الرّوح، عليه أن يترفّع عن الدنيويّات، وأن لا يبتغي اقتناء كلّ التسهيلات. علينا أن نكون يقظين وأن نسعى لخلاص نفوسنا. ابتدأت عبادتنا مع تجسّد المسيح، وسنُسأل عنها، سنُسأل إن استطعنا أن نعبد الله بأرواحنا، وإن أحببناه من كلّ قلوبنا، آمين.