العقيدة الأرثوذكسيّة وخلاص الإنسان

الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان

نقلاً عن نشرة الكرمة عدد 26

تاريخ 25/06/2017

في زمننا الحاضر، نشهد تهميشًا مبرمجًا للعقيدة الأرثوذكسيّة، والترويج لنوع من مسيحيّة أخلاقيّة، لاعقائديّة، تشدّد على فكرة أنّ المهمّ هو ما هي أعمالنا، لا بمن نؤمن أو بماذا نؤمن.

التاريخ كلّه يشهد أنّ اهتمام الكنيسة الأوّل كان دائمًا ينصبّ على حفظ عقائد إيمانها المقدّس. حين تصبّ الكنيسة اهتمامها على الأمور الأخلاقيّة والعلاقات العامّة، وتهمل، في الوقت ذاته، الكلام في العقيدة والسهر على دقّة الإيمان، فأنّها تتحوّل، بسهولة، من جسد المسيح إلى كنيسة أرضيّة. تهميش العقيدة الأرثوذكسيّة له أثران مباشران على الكنيسة: أوّلاً، الدخول الحتميّ في العولمة الدينيّة؛ فكلّ سعي إلى تهميش العقيدة الأرثوذكسيّة هو سعي لعلمَنَة الكنيسة والإيمان، من نتائجه تحوّل المسيح، الإله-الإنسان، إلى مجرّد إنسان، مُصلح اجتماعيّ. بهذه الطريقة، يضرب إبليس كلّ الإيمان المسيحيّ وكلّ عمل المسيح لخلاص الإنسان. ثانيًا، بدون العقيدة المستقيمة، يتحوّل جهاد المؤمن وهدفه إلى هذا العالم الحاضر، حيث حياته كلّها تتغيّر بحسب تغيّر روح هذه الحياة الحاضرة ومفاهيمها. حين نخلق في نفوس الأرثوذكسيّين محبّة الإيمان الأرثوذكسيّ، فإنّنا نخلق فيهم شوقًا عظيمًا لدخولٍ أعمق في سرّ يسوع المسيح الحقيقيّ. وإلّا فإنّ حياتهم تتّجه نحو الشكليّات لتطغى عليها أخلاقيّات الحياة.

فعالم اليوم يدغدغ عواطف المؤمن بدفعه إيّاه لإقامة تعارض بين العقيدة والمحبّة. بالنسبة للأرثوذكسيّ الحقيقيّ، كلّ شيء يأتي من العقيدة المستقيمة، حتّى المحبّة. لأنّ المحبّة الحقيقيّة هي عمل النعمة الإلهيّة غير المخلوقة، التي يمنحها الله للمؤمنين به بالحقّ. حين تُصبح المحبّة فوق العقيدة تبطل المسيحيّة، "الطريق إلى الحياة الأبديّة"، وتتحوّل إلى ديانة أخلاقيّة. المحبّة هي فوق العقيدة حين يتعلّق الأمر بعمل الرحمة؛ لكن، حين يتعلّق الأمر بالإيمان الأرثوذكسيّ، فالعقيدة هي فوق المحبّة وكل شيء آخر.

إنّ خلاصنا لا يتحقّق ببعض الأعمال الخارجيّة مهما كانت عظيمة وصالحة. إنّنا نخلص بإيماننا المستقيم بالإله الواحد المثلّث الأقانيم، وقبولنا لملء تجسّد المسيح، بكمال طبيعتيه وإرادتيه الإلهيّة والبشريّة، وعمل النعمة الإلهيّة غير المخلوقة، والخضوع لكلّ ما تعلّمه كنيسته الواحدة غير المنقسمة. الإيمان المستقيم يلد جهادًا شرعيًّا. حينها مسيرة الأرثوذكسيّ، للتطهّر من الأهواء والخطيئة، ولاقتناء النعمة الإلهيّة، تنعكس على حياته وتصرّفاته وأعماله في هذا العالم. لا يمكن للمسيحيّين الأرثوذكسيّين أن يكونوا متّحدين مع المسيح، وبعضهم مع بعض، عبر الأعمال الأخلاقيّة، إنّما عبر الإيمان الواحد المعيُوش في أسرار الكنيسة الواحدة. هكذا عبّر بولس الرّسول عن وحدة الكنيسة بقوله: "ربّ واحد، إيمان واحد، معموديّة واحدة" (أف5:4).

كلّ عقيدة في الأرثوذكسيّة تشهد لحقيقة إلهيّة معيّنة. تشهد لحقيقة الإله الّذي نؤمن به. لهذا، لم تَخَفِ الأرثوذكسيّة يومًا أعداءها الخارجيّين. الخطر الحقيقيّ علينا هو من الداخل، حين نفقد حسّنا العقائديّ، فنبني إيماننا، لا على العقائد الصحيحة، إنّما على مجموعة وصايا ناموسيّة. يقول الأب جورج فلورفسكي إنّ كلّ مشاكل الكنيسة والإنسان المعاصر هي بسبب أنّ المؤمنين لا يعرفون عقائد إيمانهم. لهذا يدعو إلى التبشير بعقائد الكنيسة وبدستور إيمانها الذي يحوي كلّ أسس العقيدة الأرثوذكسيّة.

حين نتخلّى عن العقيدة تسقط الحدود بين كنيسة المسيح الحقيقيّة وبين الهرطقة. لهذا شدّدت الكنيسة دائمًا على "أحد الأرثوذكسيّة"، أحد انتصار الكنيسة على كلّ الهرطقات. هذه العقائد هي مُلزمة لكلّ من يريد أن يكون مسيحيًّا أرثوذكسيًّا. مَن يُقاوم عقائد الكنيسة يُقاوم الكنيسة نفسها. الكنيسة كلّها، وفي كلّ تاريخها، سارت مستندة إلى هذه العقائد. في كلّ مجامعها المقدّسة كان همّها أن تحفظ وحدة الكنيسة في الإيمان الواحد.

التعاقب الرسوليّ، المنتقل عبر شرطونيّة الأساقفة، كان تعاقبًا في حفظ الإيمان والعقيدة. وهذا يبقى دائمًا المعيار لأيّة خلافة رسوليّة تسلسليّة. الأسقف الّذي يتهاون في فرز الإيمان الأرثوذكسيّ عن الإيمان المنحرف يأتي يوم تتخلّى فيه النعمة الإلهيّة عنه كلّيًّا. إنّنا نحتاج إلى مجمع مسكونيّ حقيقيّ يُعيد إلى العقيدة الأرثوذكسيّة مكانتها المقدّسة في مسيرة خلاص الإنسان، كما فعلت كلّ المجامع المسكونيّة السابقة، لا إلى مجمع يرضخ لواقع العولمة الدينيّة، الّذي سيقودنا حتمًا إلى مسيح كونيّ دجّال، يُبطل كلّ مسيرة الأنبياء والرسل والشهداء والمعترفين...