الأرثوذكسيَّة بين التطرُّف والتمسُّك

 

إعداد نديم سلّوم

صفحة القديس غريغوريوس بالاماس

 

الأرثوذكسيَّةُ حياةٌ ترتكزُ على العقائدِ الإلهيَّةِ النابعةِ من صُلبِ الكتابِ المقدَّس، حَفِظَها التقليدُ الشريفُ، وخَتمَها  آباءُ المجامعِ المقدَّسةِ بختمِ مواهبِ النعمةِ التي تُمنَحُ للذينَ يجتمعونَ باسمِ المسيحِ لغرضِ التقديسِ والبرِّ (البطريرك الياس الرابع).

ليست الأرثوذكسيَّةُ مجرَّد نظريَّةٍ بسيطةٍ، بل هي حقيقةٌ، وحياةٌ، وشهامةٌ لا مثيل لها. الأرثوذكسيَّةُ هي تلكَ الشهامةُ التي رأيناها في الاستشهاد. لقد دمغ الأرثوذكسيَّةَ شهداءُ كل العصور وآلافُ الأبطال والمعترفين من الرجال والنساء والأولاد. "فلطالما أظهرَ أبناءُ الأرثوذكسيَّةِ بأسًا وشجاعةً أمامَ شتَّى أنواعِ الظُّلم، إمَّا ذاكَ المتأتِّي من يوليانوس الجاحدِ، أو من الأريوسيِّين وأصحابِ الطبيعةِ الواحدة، أو من محاربي الإيقوناتِ، أو من رهبانِ اللَّاتين" (الشيخ أفرام، الرئيس السابق لدير فيلوثيو). الأرثوذكسيَّة هي طابع الكنيسة الأولى الجامعة التي حافظت على استقامة التَّعليم الرسولي، واستمراريَّة الحياة بالروح القدس. مصدرُ إيماننا في الكنيسة واحدٌ، وهو العنصرة. تمَّ هذا الإعلان مرَّة واحدة في التاريخ. أمَّا الآن، فنعيش داخل الكنيسة إمتدادًا واستمرارًا لهذا الإعلان الإلهي. هذا إنَّما يدلُّ على إيماننا الرَّاسخ بأنَّ "الكنيسة الأرثوذكسيَّة" هي عَينُها الكنيسةُ الأولى التي أسَّسها الرَّبُّ يسوع المسيح، وأعطاها أن تكون جسده الذي يقدِّس ويخلِّص كلَّ إنسان آتٍ إلى العالم. "لقد سلكت الأرثوذكسيَّة دائمًا طريق الإنجيل الملوكيَّة، فحافظت على روح المسيحيَّة صافيةً من دون زيغ ضدَّ الهرطقات... لقد حافظت دائمًا على المقياس والتناغم، لم يكن للخطإ نصيبٌ عندها، لأنَّ الآباء كانوا محرَّكين بالروح القدس ومَقودين به" (الشيخ أفرام، الرئيس السَّابق لدير فيلوثيو). لا يمكننا أن نفصل الأرثوذكسيَّة عن الكنيسة كما لا يمكن فَصل الكنيسة عن الأرثوذكسيَّة، وهذا بشهادة الآباء. بالنسبة للقدِّيس إيريناوس، الأرثوذكسيَّة هي الإيمان المستقيم ولهذا السبب، الكنيسة والأرثوذكسيَّة متَّحدتان بشدَّة. الأرثوذكسيَّة ليست شيئًا غير الكنيسة، بل هي إيمان الكنيسة المستقيم. أمَّا بالنسبة للقدِّيس مكسيموس المعترف، الأرثوذكسيَّة هي الكنيسة الواحدة التي تمتلكُ الحقيقة، وتحفظُ الطَّريقة الصحيحة للشِّفاء، وتقود الإنسان إلى المعرفة الحقيقيَّة لله التي هي الشَّركة معه. بحسب القدِّيس غريغوريوس بالاماس، الحقيقة مماثلة للكنيسة ومرتبطة بها ارتباطًا شديدًا. الأرثوذكسيَّة هي الإيمان المستقيم والكنيسة الحقيقيَّة، لأنَّ خلاص الإنسان فيها أكيد.

يقول الأب جورج فلورفسكي: "الكنيسة الأرثوذكسيَّة هي الوحيدة التي هي نفسها في عقائد إيمانها وفي حياتها، متماهية مع كنيسة كل العصور. لهذا الأرثوذكسيَّة ليست كنيسة، إنها الكنيسة".

هل كل هذا الكلام يدلُّ على تمسُّك أو تطرُّف؟

التمسُّك بالأرثوذكسيَّة هو المحافظة على تعاليم الرَّبِّ يسوع المسيح المسلَّمة مرَّة إلى الرُّسل الإلهيين، ومنهم إلى الآباء القدِّيسين. فالأرثوذكسيَّة هي ما علَّم به المسيح، وبشَّر به الرُّسل، وحفِظه الآباء (القديس أثناسيوس الكبير). استلمنا إيمانًا واحدًا منذ البدء، ونحن نحافظ عليه بتمسُّكنا به، علينا أن نجتهد "لأجل الإيمان المسلَّم مرَّة للقديسين" (يهوذا1: 3). يجب علينا، في الكنيسة الأرثوذكسيَّة الجامعة، أن نجتهد بشكل خاص في حِفظ ما آمن به المؤمنون الأتقياء في كلِّ مكان وزمان. عيشنا للأرثوذكسيَّةِ هو الإخلاص الأصدق للحقيقة، والتَّفاني من أجلها.

يروي لنا القدِّيس يوحنا الذهبي الفم مثلاً في شرحه للآية "مفتدين الوقت لأنَّ الأيّام شرّيرة" (أف5: 16)، إفترضوا أنَّ إنسانًا يملكُ بيتًا بهيًا، وجاء البعضُ ليقتلوا صاحبَ البيت. فقدَّم لهم هذا الأخير أشياءَ كثيرة من أجل أن يخلِّصَ نفسه. في هذه الحالة نقول إنَّه قد افتدى نفسه. أنتم أيضًا لكم أملاك كثيرة وإيمانٌ حقيقيّ. يهاجمونكم ليخطفوا منكم كلَّ شيء. أعطوا ما يُطلَب منكم ولكن احرصوا على أن تحافظوا على الأهم، وهو الإيمان.

أين يصبح هذا تطرُّفًا؟ عندما نبدأ بإدانة غير الأرثوذكسيِّين بأنَّهم ذاهبون إلى الهلاك ولا خلاصَ لهم. نأخذ دور الله ونحكم من سيَخْلُص من الناس. هذا ما يُدعى بالتطرُّف. في الأرثوذكسيَّةِ، ننظر إلى العقائد الغريبة ونقول: ليست هذه الطريقة القويمة. ولكنَّنا لا نقول كلَّ من يسلكها سيَهلُك. لا نعرف هذا. نستطيع القول "هذه العقيدة تقود إلى الهلاك". يجب أن يعتبر الأرثوذكسي نفسه خاطئًا (1تيمو 1: 15) ولكن الإيمان الذي ينتمي إليه هو الصحيح. على سبيل المثال، ليس تعصُّبًا تسمية التَّعليم الغربي عن الثالوث تجديفًا (البطريرك أنثيموس السادس)، وكذلك الأمرُ في عدم مناولة غير الأرثوذكسيِّين، فهذا ليس بتعصُّب. فقط من هم في شركة مع الكنيسة يستطيعون تناول جسد المسيح ودمه، بما أنَّهم منتمون إلى الكنيسة من خلال سِرَّيّ المعمودية والميرون.

قد يتصوَّر البعض أنَّ التعصُّبَ الأرثوذكسيَّ هو الذي يُملي كتابة هذه الكلمات. عندما نتكلم عن الأرثوذكسيَّة، لا نضع نصب أعيننا التعصُّب الجاهل، بل المحبَّة المنفتحة لاحتضان العالم. الأرثوذكسيَّة هي انفتاحٌ على الجميع ولكن ضمن الحدود الإيمانيَّة كما يخبرنا القدِّيس نيقوديموس الآثوسي: "علينا أن نمقت العقائد والعادات اللاتينيَّة وغير الأرثوذكسيَّة؛ ولكن إذ كانوا يملكون أمورًا توافق عليها قوانين المجامع المقدَّسة، فهذه يجب أن لا نمقتها".

نرى الآن العالم لا يميِّز بين التمسُّك والتعصُب، ويعتبر الحفاظ على الإيمان والشهادة له هو من أنواع التطرُّف. تقاوم روح العالم التمسُّك بالإيمان. تمسَّكَ آباؤنا بحقائق الإيمان وحذَّروا من التَّهاون، ليس من باب الدينونة، لكن من باب المحبَّة الحقيقيَّة. التطرُّف الوحيد والمسموح في الأرثوذكسيَّة هو محبَّة الله وحفظ وصاياه والوصول إلى الكمال.

نردد أخيرًا قَوْلَ البطريرك أنثيموس السَّادس الوارد في رسالته التعميميَّة: "لن يفصلنا أحد عن محبَّةِ المسيح. لن يحرِّفنا أحدٌ عن عقيدة الأناجيل. لن يغرِّبنا أحدٌ عن توجيهات آبائنا".

 

 

المراجع:

1. عظة في أحد الأرثوذكسية للبطريرك الياس الرابع

2. الأرثوذكسية هي طريق الإنجيل الملوكية. عظة للأرشمندريت إفرام الرئيس السابق لدير فيلوثيو الآثوسي. ترجمة رهبان دير رقاد والدة الإله – حمطورة

3. المحبة بالحق. الجزء السابع (رسالة من المجمع المقدس لجبل آثوس إلى بطريرك القسطنطيني، 8 كانون الأول 1993). إعداد قسطنطين زلالاس. ترجمة ماهر سلوم ونديم سلوم

4. نور العالم. مقالاتٌ حول المسيحية الأرثوذكسية (المقالة الأولى: الأرثوذكسية). سرجي فيرهوفسكي. نقله إلى العربية ديرا القديس جاورجيوس والشيروبيم صيدنايا

5. الفكر الكنسي الأرثوذكسي. الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس. تعريب الأب أنطوان ملكي

6. رسائل الأحد، بعد العنصرة. إعداد دير مار ميخائيل

7. Orthodoxy and heterodoxy, finding the way to Christ in a complicated religious landscape. Andrew Stephen Damick

8. A handbook of spiritual counsel. Nicodemos of the holy mountain