ما بعد القيامة

الشيخ أليشع، رئيس دير سيمونوس بترا

 

صفحة القديس غريغوريوس بالاماس

تعريب ماهر سلّوم

 

 

 

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم في عِظَتِه الفصحيّة: “قام المسيح فانْبَثَّت الحياة في الجميع[1]”. هذا يعني أن المسيح قد قام ولدينا الآن الحياة الحقيقيّة، أو بكلام آخر، قام المسيح وباستطاعتي أن أعيش كَمُواطِن حُر، لقد تحرّرتُ من قوة الشرير، تحرّرتُ من الموت، إنني أحيا حياة حقيقيّة مَنَحَني إيّاها الرب القائم من بين الأموات.

إذن، ليست قيامة الرب حَدَثًا تاريخيًّا فَحَسب. إنها أمرٌ أسمى وأعظم بلا قياس من الأحداث التي سجّلها التاريخ. قيامة المسيح هي ينبوع الحياة والرجاء والقوة الروحيّة غير المُتَناهية. لا يستطيع أحد أن يحدّد هذه القوة المُنبَعِثة من الرب القائم والمُتَغَلغِلة في البشريّة.

بقي الرب يسوع المسيح بعد قيامته مدّة أربعين يومًا مع تلاميذه. كانت هذه الأيام كِناية عن تَمهيد وتَدريب، إن صحّ التعبير، نحو سرّ. منذ ذلك الوقت، يعترف التلاميذ والمؤمنون بالمسيح من خلال الإيمان بحواسّهم الروحيّة، وليس من خلال حواسّهم الجسديّة بشكله الطبيعي. هذه ليست فيما بعد الحياة التي عَرَفوها من خلال الجسد الذي اتّخذه المسيح من أجل محبّته لتلاميذه وللعالم أجمع. ليس المسيح فيما بعد كائنًا ظاهِرًا ومَرْئيًّا فحسب، هو ليس الشخص الذي رأته مريم المجدليّة. لأجل هذا لم تقدر أن تَلمُسَه حين قال لها: "لا تَلمُسيني”. إعتقدت أنها تقترب من ذات الشخص الذي رأتْهُ قبل القيامة. لكنه الآن المسيح ’ما بعد الآلام’، الذي مُجِّد واتّخذ الحياة غير الفاسِدة. إنه الآن ما هو حقًّا، وليس الذي دَفَنَهُ التلاميذ ورأوه قبل أن يُسَمَّر على الصليب. لم يَعُد جسد المسيح فيما بعد خاضِعًا لقوانين الطبيعة والإنحلال. إنه الآن ما نقصد حين نرتّل "كل ما شاء الرب صَنَعَهُ”. كما يقول الشيخ إيميليانوس (رئيس دير سيمونوس بترا الأسبق): “إنه ما يَظهر وكيف يَظهر ومِقدار ما يَظهر؛ إنه ما يُقَدِّم لتلاميذه ومِقدار ما يُقَدِّم. لقد أعطى وبذل واستنفد ما يشاء هو… كل ما نقدر أن يستوعِب، كل ما نستطيع، كل ما نفهم، كل ما نشاء”.

 

فلنَنظُر إذن إلى هذا السر ونفهمه من خلال ظهور وحيد للمسيح بعد قيامته لإثنين من تلاميذه كانا سائرَيْن في الطريق نحو عمّاوس، وهي بلدة صغيرة تبعد حوالي عشرة أميال من أورشليم. يرد هذا الظهور فقط في إنجيل لوقا وهو من أجمل المَشاهِد في إنجيله والأكثر إشراقًا.

يبدو من خلال النص أن التلميذَين، كليوبا (أحد السبعين) ولوقا، على الأرجح، كانا حَزينَين جدًّا بسبب ما جرى في الأيام السابقة، أي مُحاكمة مُعَلِّمِهِم وصَلبه الذي كانت آمالُهم مُعَلَّقة به أنه المسيح. لقد خابَت كل توقُّعاتِهم. رغم كآبَتِهم، لم يتضاءل حبُّهم ليسوع في قلوبهم الطاهرة والصّادِقة. هذا واضِح من مضمون نِقاشِهم عنه. كان من الصعب عليهم أن يفهموا كيف انحرفت كل الأمور عن مَسارِها وكيف زالت كل آمالِهم واختفى مُعَلِّمُهُم الحبيب في وقت قصير.

لكن يسوع ظهر لهم فجأة وبطريقة غير مُتَوقَّعة كَمُسافِر غير مألوف ابتدأ بالحديث معهم فيما هما يتكلّمان. يذكر القديس مرقس في إنجيله بشكل سريع أن يسوع تراءى بأشكال أخرى. يخبرنا القديس لوقا أن أَعْيُنَهُمَا أُمْسِكَتْ عَنْ مَعْرِفَتِهِ. تحوي هذه الآيات سرًّا عظيمًا ومُهِمًّا. من الآن فصاعدًا، تختلف العلاقة بين يسوع وتلاميذه والمؤمنين في جميع الأزمنة. لم يشأ الرب أن يُعرَف بشكله البَشَريّ، بل من خلال الإيمان والخبرة. لا يرد في الأناجيل أيّة إشارة عن مَظهَر المسيح الخارجي وشكله. لدينا فقط من خلال تقليد الكنيسة فكرة بسيطة عن مَظهره ويمكننا تَصويرُه. يمكن فعلاً أن يكون هذا هو السبب لعدم ذكر أي من هذه المعلومات في الأناجيل: كي يُمَهِّدَنا إلى السر ذاته.

اقترب المسيح من تلاميذه وسأل عمّا كانوا يتكلّمون ولماذا وجوههم مُنَكَّسة. تظاهر بالجهل كي يتمكّنوا من إعلان مضمون الحديث عُنوةً. بهذه الطريقة، أراد أن ينتهز الفرصة كي يتكلّم معهم ويجعلهم يفهمون، من خلال نبوءات العهد القديم، أن المسيح كان مُتَّجِهًا إلى الآلام "وكَانَ يَنْبَغِي أَنَّ يَتَأَلَّمُ بِهَذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ" (لوقا 26:24). لكن فيما كان الرب يُكَلِّمُهما ويشرح لهما الكتب، اشتعلت قلوب التلميذَين بنار إلهيّة وتعزية حلوة وحلّ السلام عليهما. إن مظهر شخص المسيح كان مختلفًا لكن أثر كلمات النعمة الصادرة منه وحُضوره كانت ذاتها وكانت مألوفة. كان التلميذان مُنذَهِلَيْن عند هذا التغيير الداخلي المُفاجئ وغير المُتَوَقَّع في أحاسيس قلوبهم. لم يُريدا الإنفصال عن هذا المُسافر غير المَألوف، فعندما تظاهر أنه يريد إكمال الطريق إذ كانوا قد اقتربوا جدًّا من عمّاوس، ألحّ عليه التلميذان كي يبقى، بكلمات عميقة المعنى: “ٱمْكُثْ مَعَنَا، لِأَنَّهُ نَحْوُ ٱلْمَسَاءِ وَقَدْ مَالَ ٱلنَّهَارُ”. فبقي معهما بما أنه عظيم الرأفة والتَّحَنُّن.

“فَلَمَّا ٱتَّكَأَ مَعَهُمَا، أَخَذَ خُبْزًا وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَهُمَا. فَٱنْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ ٱخْتَفَى عَنْهُمَا” (لوقا 30:24-31). لقد رأينا كيف أن المسيح، في بادئ الأمر، مشى مع تلاميذه من دون أن يعرفوه وأنه أظهر ذاته لهم لاحقًا ’عند كَسر الخبز’. يظهر المسيح بشكل آخر ويُعرَف عند كسر الخبز، حيث نتناول جسده ودمه بشكل الخبز والخمر. وفي تلك اللحظه نشعر بتأكيد أن المسيح بذاته دخل فينا، بِغَضّ النظر عن أن أعيننا ترى فقط خبزًا وخمرًا.

“ثُمَّ ٱخْتَفَى عَنْهُمَا”. لقد عَرَفاه عند كسر الخبز ثم اختفى في طَرْفة عين. لو بقي معهما بعد أن عَرَفاه، لما كانا قد فَهِماه بشكل صحيح، لأنهما كانا قد فَسَّرا وجوده بطريقة أُخرى. كان بإمكانهم أن يعتقدا أنه موجود معهما فقط، لكن في الحقيقة الرب حاضر في كل مكان. هذا الإختفاء من أمام أعين التلاميذ يُظهِر أيضًا سرًّا آخرًا تعمل به العناية الإلهيّة من أجل تَدريبنا. عندما يحِلّ الرب في شخص من خلال قوة روحه وتأمّل به هذا الشخص، عندها ينصرف الرب كي تتوق إليه النفس التي تحبّه أكثر فأكثر. لذا، كل الذين عرفوه بهذه الطريقة لهم شهادة أكبر عن قيامته. إن الثقة في بشارة الرسل، الذين عايَنوا قيامة الرب، تصبح الآن خبرة شخصيّة، شهادة شخصيّة بأن الرب قد قام حقًّا.

إن هذه الشهادة الشخصيّة لحقيقة قيامة الرب تؤكّد انتصاره على الموت. لقد سحق قوة الشيطان ولسنا فيما بعد عبيدًا للقبر والموت لكن القيامة  والحياة الأبديّة أصبحت هدف حياتنا. وليس هذا فقط، لدينا أيضًا حقًّا أعظم بأن نشارك في يوم مُلكه الذي لا يَغرُب وبمجده الأبدي.

 

المصدر

https://pemptousia.com/2019/04/after-the-resurrection/

https://pemptousia.com/2019/04/after-the-resurrection-2/

https://pemptousia.com/2019/05/after-the-resurrection-3/

 



[1]. الترجمة المُعتَمَدة "انْبَثَّت” هي غير دقيقة. فيما الفعل المُستَخدَم في اللغة اليونانيّة Πολιτεύεται يعني ’حَكَمَ’ أو ’سادَ’، لكن أصل الكلمة هو ’polis’ أي ’مدينة’، ويُشير الفعل ’أنه لنا الحق بالإنخراط بالشؤون العامة كمواطنين في المدينة’ (يوجد في اللغة اليونانية فعل لهذه العبارة! Πολιτεύεται). هذا هو المعنى لوجود المسيحيّين في السماء. يُستَخدَم هذا الفعل أيضًا للدلالة على ’كيفيّة عيش الحياة’.