“مُفتَعِل المشاكل” الذي صار قدّيسًا


عظة للأب جيمس جرجس

 

صفحة القديس غريغوريوس بالاماس
(تعريب ماهر سلوم)

 

لقد دُعِي في وقتٍ ما "مُسَبِّب المشاكل والإضطرابات في الكنيسة”. فلنَتخايَل أن بطريرك القسطنطينية بِذاته دَعاه "مُسَبِّب المشاكل والإضطرابات في الكنيسة” عام 1344. لقد قيلَ هذا الكلام في مجمع للكنيسة وأودَت بهذا الرجل أن يُطْرَح في السجن لمدّة أربع سنوات. الرجل الذي كان "مُسَبِّب المشاكل والإضطرابات في الكنيسة” هو القديس غريغوريوس بالاماس. قصّته طويلة ومُعَقَّدة لكن على كل واحد منّا أن يعرف عن هذا الإنسان: القديس غريغوريوس بالاماس أسقف تسالونيكي. لأجل ذلك خَصّصت الكنيسة، بِحِكمتها، الأحد الثاني من الصوم الكبير للقديس غريغوريوس بالاماس.

لماذا دُعِي هذا الرجل "مُسَبِّب المشاكل والإضطرابات في الكنيسة”؟ ما هو الأمر الفظيع الذي ارتكبه؟

لقد تربّى في القسطنطينية في عائلة ثَرِيّة كانت على صَداقة مع الإمبراطور، لكن غريغوريوس مالَ إلى حياة الكنيسة منذ شِبابه. لم يكن هذا الأمر صُدفة لأن أهله كانوا يحبّون الكنيسة وكانوا كثيرًا ما يدعون الإكليروس والرهبان كي يقضوا بعض الوقت معهم. غادر غريغوريوس حياة الرَّفاهية شابًّا وسافر إلى جبل آثوس في اليونان كي يتدرَّب كراهبٍ على أساليب الصلاة. كَرَّس كل حياته لله لأنه أحَبَّ الله وأراد أن يقضي كل وقته في خدمة الله. نما حكيمًا وقويًّا من خلال الصلاة بإرشاد رجال قديسين من ذوي الخبرة.

للأسف، بسبب ضيق الوقت، لا يمكنني أن أخبركم بكامل سيرته، لكنني أخبركم أنه تقدّم في الرهبنة وأصبح رئيس دير ومرشد لمجموعة رهبان وشيخًا جليلاً في الجبل المقدّس (جبل آثوس). بدأت الإضطرابات الحقيقية حين زار جبلَ آثوس راهبٌ من إيطاليا، معلّم وخِطّيب ذو موهبة. هذا الراهب كان برلعام الذي علّم الرهبان ما يلي:

كان برلعام يؤمن أن الرهبان في جبل آثوس يُضَيِّعون وقتهم في الصلاة والتأمُّل بينما يجب عليهم أن يقضوا وقتهم في الدِّراسة.
سخر من الجهاد الرهباني وحياة النُّسك وطريقتهم في الصلاة ومن تعاليمهم عن النور غير المخلوق الذي يختبره الهدوئيّون.
في مواجهته لموقف الكنيسة التقليدي القائل أن "اللاهوتي هو الذي يصلّي”، سأل برلعام:
“كيف يمكن أن تتم شركة حميمة بين الإنسان والله من خلال الصلاة، فالله مُتَعالٍ ’سَاكِنًا فِي نُورٍ لَا يُدْنَى مِنْهُ’ (1 تيموثاوس 16:6
لا يمكن لأحد أن يدرك كيان الله!” كان برلعام مقتنعًا أن الله يمكن إدراكه فقط
من خلال المعرفة الفكريّة والفلسفيّة – أي من خلال العقلانيّة.
[1]

أدّت هذه الآراء لجدال كبير بين الرهبان خاصة بين غريغوريوس وبرلعام. لِمَ هذا الجِدال؟ لأن برلعام كان يعلّم أننا نختبر الله من خلال المعرفة، أي أننا نعرف الله في عقلنا. هذا نوع من العقلانيّة، إنه الإيمان أن الطريقة الوحيدة لمعرفة الأشياء تتم بواسطة العقل. أدّى هذا التعليم للعديد من المشاكل في المسيحية الغربيّة وإلى الإصلاح البروتستانتي في نهاية المَطاف. المشكلة الأساسيّة في هذا التعليم هو أننا نعرف الله فقط من خلال المنطق، وكأن الله هو مُعادَلة حِسابيّة. يتجاهل هذا التعليم أنه لعدّة قُرون، هناك عِدّة أشخاص أمّيّين من رجال ونساء هم قدّيسون قد اختبروا الله من خلال حياة الكنيسة. علاوة على ذلك، هذا يعني أن برلعام اعتقد أن ما يختبره الرهبان من خلال الصلاة ليس خبرة أصيلة وحقيقية لله، بل خبرة أقل أهمّية لشيء خلقه الله، وهذا ما سَمّاه "نعمة”.

نعلم أن برلعام سافر إلى القسطنطينية ومَرّ بالأديار. لقد رفض أن يحضر السهرانيّات وأن يصوم ويصلّي، ولم يثق بالخبرات الروحيّة. بإختصار، تصرّف كالمسيحيّين العَصرِيّين وحتى كبعض الذين يُسَمّون أنفسهم اليوم مسيحيين أرثوذكس. لقد سبّب انقسامًا في الكنيسة بتعاليمه الخاطئة ثم وضع كامل اللَوْم والمسؤولية على غريغوريوس. لقد حصل هذا الأمر سابقًا ويمكن أن يحصل مجدّدًا.

ليست معرفة الله نظريّة، إنها خبرة واقعيّة حقيقيّة. علّم القديس غريغوريوس بالاماس أن نستطيع بكل تأكيد أن نعرف الله. وضع تمييزًا مهمًّا، قال أن هناك وجهين لمعرفة الله. الوجه الأول هو معرفة جوهر الله، وهذا مستحيل على أي إنسان. لم يرَ اللهَ أيُ إنسان، لا يستطيع أحد أن يستوعب عَظَمَتَه أو مجده. من ناحية أُخرى، علّم غريغوريوس أنه بإمكاننا معرفة الله من خلال قِواه أي السبيل الذي يعمل به بوضوح في عالَمِنا ويسكن فينا. قارَن معرفة الله بالشمس. الله كالشمس[2]، لا يمكن لَمْسُهُ ولا يمكن النظر إليه عن قُرب. رغم أن هذا مستحيل لكن يمكننا أن نَستمِدّ الطاقة من الشمس. نشعر بدفء أشعّتها ونختبر النور والحرارة.

عانى القديس غريغوريوس وتم سجنه أكثر من مرة بسبب دفاعه عن إيمانه بالإله الحي. ربما سوف يتوجّب علينا يومًا ما أن نتحلّى بالشجاعة ونُضطَهَد من أجل إيماننا المسيحي. لا يمكنكم الإستعداد بتخزين الأسلحة والذخائر. يمكنكم الإستعداد من خلال محبّتكم للقريب وتخزين كلمة الله في قلبكم، وبأن تصيروا رجال ونساء صلاة وتعلّموا أولادكم حياة الصلاة. يعلّمنا القديس غريغوريوس أنه يمكن أن نستمدّ أشعّة محبة وبركات الله في شركة حقيقيّة من خلال الجهاد كي نصل إلى الصلاة الحارّة. لا يحصل هذا فورًا بل يأتي بنعمة الله. يريد الله أن يعمل بنا من خلال الصلاة؛ ليست الصلاة تأمُّلاً ولا تمرينًا فكريًّا، إنها شركة مع الله.

يذكِّرنا هذا العيد أنه يمكن أن نختبر الله وأنه ليس نظريّة مُخَبّأة في كتاب. الشهادات ودرجات العِلم محدودة في الكتب، أمّا خبرة الصلاة النقيّة فهي معلّم حقيقي. الآن، وقد جاهدنا لِبِضع أسابيع، يمكن نَيْأس ونتساءل: لماذا نصوم، لماذا نصلّي أكثر، لماذا نُشارك في خدمات إلهيّة إضافيّة، ما الحاجة لكل هذا؟ يجيبنا القديس غريغوريوس: هذه الأمور تفتح لنا محبة ونعمة الله التي تسكن فينا من خلال اتحادنا وشركتنا بالروح القدس.

فلنُثابِر إذن في الجهاد؛ فالأمر يستحق ذلك. المجد لله دائمًا، آمين.

 

http://www.orthochristian.com/101797.html

 


[1]. AGAIN Magazine, Conciliar Press, Vol, 27, No 1.

[2]. إذ نعيّد لذكرى القديس غريغوريوس بالاماس أسقف تسالونيكي في الأحد الثاني من الصوم الكبير، تحدِّثُنا الكنيسة المقدَّسة عن سر النور، الذي يجب أن نكون على معرفة به إن أردنا رؤية قيامة المسيح. يعلّمنا القديس غريغوريوس بالاماس مع الحجج اللاهوتيّة المتعلّقة به في القرن الرابع عشر أن نور التجلّي الإلهي هو نور غير مخلوق. فيما يدحض هرطقات لاهوتيّي الغرب، يذكّر هذا التعليم المسيحيّين بكلمات الكتاب المقدّس التي تقول أن الله نورٌ. فحين نعترف بالله الآب والله الإبن أنه نور من نور، إله حق من إله حق، نؤمن أن الله الذي هو النور قد خلق نورًا آخر – المذكور في كتاب التكوين: وَقَالَ ٱللهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ».

لم تكن هذه الأسئلة العقائديّة أسئلةً تجريديّةً ومَعزولة عن حياة الكنيسة. ولا يجب أن تكون مَعزولة عَنّا أيضًا. من الخطأ أن ننظر إليها أنها نقاشات لاهوتيّة أو عِلميّة بسيطة ولا علاقة لها بحياتنا. إذا عَزَلْنا تعليم النور الإلهي من حياتنا فهذا يعني شيئًا واحدًا: أن النور الذي يتكلّم عنه الله – النور الذي ليس فيه ظلام – سوف يبقى محجوبًا عن نَظَرِنا، و أننا لا نأسف ولا نَتوب أننا ما نزال في الظلام. كل مشاكل الكنيسة هي، في النهاية، تتلخّص بحقيقة أن بعض أسرار الإيمان تبقى تجريديّة ونظريّة. وحين تتوقّف هذه الأسئلة الجوهريّة التي تقرِّر مصيرنا عن الحياة فينا، نخسر عمق الإيمان وكمال دعوتنا المسيحيّة التي يجب أن نحقِّق في الكنيسة. (المتقدِّم في الكهنة ألكسندر شفغونوف، http://orthochristian.com/45351.html)