أحد الأرثوذكسيّة

عظة في الأحد الأول من الصوم للقدّيس لوقا (الطبيب)، رئيس أساقفة كريميا

 

صفحة القدّيس غريغوريوس بلاماس

تعريب ميشال بو صعب

 

 

تحتفل كنيستنا المقدّسة في الأحد الأول من الصَّوم بانتصار الأرثوذكسيّة التي دحضت كل الهرطقات، لهذا السبب سميّ هذا الأحد بأحد الأرثوذكسيَّة.

بدأ ظهور الهرطقات منذ بدايات المسيحيّة، حتى أنّ الرسل أنفسهم حذّروا الشعب آنذاك، ونحن معهم، من مخاطر التعاليم الكاذبة. يكتب الرسول بطرس في رسالته الجامعة الثانية، "وَلَكِنْ، كَمَا كَانَ فِي الشَّعْبِ قَدِيماً أَنْبِيَاءُ دَجَّالُونَ، كَذَلِكَ سَيَكُونُ بَيْنَكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً مُعَلِّمُونَ دَجَّالُونَ. هَؤُلاَءِ سَيَدُسُّونَ بِدَعاً مُهْلِكَةً، وَيُنْكِرُونَ السَّيِّدَ الَّذِي اشْتَرَاهُمْ لِنَفْسِهِ. وَبِذَلِكَ يَجْلِبُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ دَمَاراً سَرِيعاً. وَكَثِيرُونَ سَيَسِيرُونَ وَرَاءَهُمْ فِي طُرُقِ الإِبَاحِيَّةِ. وَبِسَبَبِهِمْ تُوَجَّهُ الإِهَانَةُ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ" (٢ بط ٢: ١-٢).

وفي عودته من اليونان إلى فلسطين، توقّف بولس الرسول في مدينة أفسس حيث توجّه إلى مسيحيي تلك البلاد قائلًا: "فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ بَعْدَ رَحِيلِي سَيَنْدَسُّ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ، لَا تُشْفِقُ عَلَى الْقَطِيعِ. بَلْ إِنَّ قَوْماً مِنْكُمْ أَنْتُمْ سَيَقُومُونَ وَيُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ مُنْحَرِفَةً، لِيَجُرُّوا التَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ" (أع ٢٠: ٢٩-٣٠).

لقد وُجد الكثير من هؤلاء المعلّمين والمنشقّين في العصور المسيحيّة الأولى، وعددٌ لا بأس به منهم أرهق الكنيسة لسنين طويلة بهرطقته، مثل هرطقات آريوس ومقدونيوس وأفتيخيوس وذيوسقوروس ونسطوريوس وكذلك الأمر بالنسبة إلى هرطقة تحطيم الأيقونات. لقد سبّبت هذه الهرطقات إنزعاجًا كبيرًا في الكنيسة التي تأثّرت جرّاءها. ومع كل ذلك برز الكثير من الشهداء والمعترفين الذين قدّموا دمائهم للدفاع عن الإيمان المستقيم ضدّ المعلّمين الكذبة والهراطقة.

وقضى أيضًا تحت الإضطهاد الكثير من الأساقفة المستقيمين وتعرّض عددٌ منهم للنفي، مثل القديس فلافيان بطريرك القسطنطينيّة الّذي تعرّض في مجمعٍ يؤيّد ذيوسقوروس (دعي المجمع اللّصوصي) للضرب الشديد إلى أن أسلم الروح بعد ثلاثة أيام.

وكانت آخر الهرطقات هرطقة تحطيم الأيقونات التي مرمرت الكنيسة كثيرًا. فقد ظهرت هذه الهرطقة أولًا في عهد الإمبراطور لاون الثالث الذي استلم الحكم عام ٧١٧ بقوّة السّلاح والذي كان له الكثير من المعارضين الذين يكرِّمون الأيقونات. ولأنه كان يريد أن يرضي الجيش بدأ اضطهاداته الشعواء ضد الأيقونات.

واستمرّ الإضطهاد خلال فترة حكم الإمبراطور قسطنطين كوبرونيموس (الزبلي الإسم) الذي خلف الإمبراطور لاون الثالث. واسمه هذا "الزبلي" يأتي من حيث أنّه تبرّز في جرن المعموديّة أثناء معموديّته. لقد سيطر هذان الإمبراطوران بقوّة لعدّة سنوات وسبّبا المتاعب الكبيرة للكنيسة وقد خلفهما عدد من الأباطرة المحاربين للأيقونات أيضًا الذين بدورهم أرهقوا الكنيسة وعذّبوها لسنين.

من الصعب أن نبدأ بوصف ما تكبّدته الكنيسة خلال الحرب على الأيقونات وما تكبّده الرّهبان الذين كانوا رأس الحربة في دفاعهم عن الأيقونات المقدّسة. فقد أغلق الأباطرة المضطهِدون عدداً من الأديار والكنائس حيث توجد الأيقونات وعرّضوا الرًّهبان للضرب الوحشي: نزعوا عيونهم وقطعوا أنوفهم وقاموا بتحطيم الأيقونات فوق رؤوسهم، كما أحرقوا أصابع الآباء الرّهبان الذين يرسمون الأيقونات بالحديد الذائب.

لم يتوقف الإضطهاد إلّا مع الإمبرطورة إيريني التي تبوّأت عرش الإمبراطوريّة البيزنطيَّة، إلّا أنَّ ذلك لم يكن النهاية. فدعت إيريني عام ٧٨٧ إلى انعقاد المجمع المسكوني السابع الذي يعلّم بوضوح التعليم الأرثوذكسي الصحيح حول تكريم الأيقونات المقدّسة. لكن ومع كل ذلك، ظلّ توارد الأباطرة المضطَهدين للأيقونات مثل الإمبراطور ميخائيل وغيره. أمّا القضاء النهائي على هذه الهرطقة فتمَّ مع القديسة ثاوذورة بعد انعقاد مجمع محلّي في القسطنطينيّة عام ٨٤٢ أكَّد التعليم المستقيم وأصدر حُرمًا على جميع الذين يتجرّأون أن يقولوا إنّ تكريم الأيقونات هو عبادة وثن وإنّ المسيحيين هم عَبدة أوثان، وما زالت هذه التُّهمة تلاحقنا حتّى يومنا هذا. سأخبركم عن حادثة حصلت مؤخرًا في سيبيريا. دخل أثناء القدّاس الإلهي إثنان من المعمدانيين (البروتستانت) وهم يصرخون أنّ الأرثوذكس يعبدون الأصنام وأنّ أيقوناتهم هي تلك الأصنام. هذا كلامٌ فارغ!

كيف يتجرّأون أن يتفوّهوا بهذه الأقوال التي تقطر السّم ناعتين إيانا بالوثنيين وأن الأيقونات هي أصنام؟ يدل ذلك أنّهم لم يفهموا بشكلٍ صحيح الوصيّة الموسويّة الثانية: "لَا تَنْحَتْ لَكَ تِمْثَالاً، وَلاَ تَصْنَعْ صُورَةً مَّا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ أَسْفَلِ الأَرْضِ" (خر ٢٠: ٤).

ما هو المقصود بهذه الوصيّة؟ أعتقد أنَّ المعنى واضحٌ جدًا. تمنع الوصيّة إنشاء الأصنام لعبادتها بدل عبادة الله الواحد والفريد والحقيقي، كما فعلت الشعوب القديمة مثل الآشوريين والبابليين والمصريين والإغريق والرومان وغيرهم. هذه تسمّى عبادة وثن. ولكن، هل يعتبر تكريمنا للأيقونات المقدّسة مشابهًا لعبادة الأوثان؟ بالطبع لا! تمثّل الأوثان أشياء خياليّة لا وجود حقيقي لها، أما أيقوناتنا فهي تصوّر الحقيقة.

ألم يعش الرب يسوع المسيح، الذي نمجّده ونسجد له في الأيقونة، بيننا؟ ألم تكن العذراء مريم، التي صوّرها الرسول والإنجيلي لوقا، بيننا أيضًا؟ لقد باركت والدة الإله تلك الأيقونة بنفسها قائلةً إنَّ النعمة دائمًا في هذه الأيقونة. هل تعلمون عدد العجائب التي تحصل من خلال أيقونات العذراء والدة الإله؟ ألا تصوّر باقي الأيقونات قدّيسين حقيقيين عاشوا على هذه الأرض؟ من المستحيل أن تكون هذه الأيقونات أصنامًا. الأفواه الوحيدة التي تتجرّأ أن تنعت هذه الأيقونات بالأوثان وأننا نعبدها هي الشفاه غير المؤمنة والبذيئة. لتصمت شفاه المنافقين الذين حرمهم المجمع المسكوني. عليكم أن تعلموا ذلك وتتذكروه ولا تشاركوا الهراطقة.

لا تتركوا الكنيسة، لا تمزّقوا ثوب المسيح. تذكروا جيدًا أنّ المسيح، في صلاته في الجسمانية، توسّل إلى أبيه قائلًا: "لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِداً؛ أَيُّهَا الآبُ، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا، لِكَيْ يُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي" (يو ١٧: ٢١). يريد المسيح وحدة الكنيسة. الدخلاء والمنشقين الذين يجدون أخطاءً في تعاليم الكنيسة، يُقصون منها. وليجدوا عندها الخلاص في منظماتهم الهرطوقيّة.

أتعلمون ما يقوله الآباء القديسون عن الذي يمزّقون رداء المسيح؟ يوضح القدّيس كبريانوس القرطاجي أن الذين يتركون الكنيسة ولا يعودون في شركةٍ معها، حتى ولو وصلوا للشهادة  فدمائهم لن تطهّر خطيئتهم. لأنّ هذه الخطيئة العظمى، أي الشطور من الكنيسة، لا يمكن أن تمحى حتى بإهراق الدم. أما القديس إغناطيوس الحامل الإله فيقول إنّ الذي يُحدث شقاقًا في الكنيسة لن يرث ملكوت الله.

كل الهراطقة هم معلّمون في الإنشقاق. يقول الرسول: "وَلكِنْ، أُنَاشِدُكُمْ، أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَنْ تَنْتَبِهُوا إِلَى مُثِيرِي الانْقِسَامَاتِ وَالْعَثَرَاتِ، خِلاَفاً لِلتَّعْلِيمِ الَّذِي تَعَلَّمْتُمْ، وَأَنْ تَبْتَعِدُوا عَنْهُمْ" (رو ١٦: ١٧). وفي موضعٍ آخر يقول: "وَكَمَا سَبَقَ أَنْ قُلْنَا، أُكَرِّرُ الْقَوْلَ الآنَ أَيْضاً: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُبَشِّرُكُمْ بِإِنْجِيلٍ غَيْرِ الَّذِي قَبِلْتُمُوهُ، فَلْيَكُنْ مَلْعُوناً!" (غل ١: ٩). والمعلوم أنَّ الهراطقة لا يعلّمون ما تعلّمه الكنيسة الأرثوذكسيَّة التي ولدتنا بالرّوح.

تذكروا أيضًا كلام الرَّب يسوع حين قال للرسل ومن خلالهم لجميع الذين خلفوهم: "مَنْ يَسْمَعْ لَكُمْ يَسْمَعْ لِي، وَمَنْ يَرْفُضْكُمْ يَرْفُضْنِي؛ وَمَنْ يَرْفُضْنِي يَرْفُضِ الَّذِي أَرْسَلَنِي!" (لو ١٠: ١٦). رائع هذا الكلام. تذكروه دائمًا. لا تنسوا هذا اليوم، يوم انتصار الإيمان الأرثوذكسي، هذا الإيمان الذي حُدِّدَ في المجمع المسكوني السابع، الذي رفع شأن الأرثوذكسيّة ودحض كل الهرطقات والشقاقات.

لقد مرَّ حوالى ألف سنة على انعقاد المجمع المسكوني السَّابع ولم تعقد أيّ مجامع مماثلة منذ ذلك الوقت، لماذا؟ الأسباب سياسيّة. كان صعبًا جدًا أن ندعوهم. ولكن لا نأسفنَّ لعدم انعقاد المجامع المسكونيّة منذ ذلك الوقت إلى اليوم لأنّ المجامع السبعة التي انعقدت أجابت عن كل التساؤلات وحلّت كل المشاكل التي كانت بين الكنيسة والهراطقة وحدّدت الإيمان القويم.

قد تقولون إنّه هناك الكثير من الهرطقات الجديدة اليوم. نعم هذا صحيح. ولكن يجب أن نعلم أن الهرطقات الجديدة لا تختلق أمور جديدة إنما تعيد ما قاله الهراطقة في الماضي. كل تلك الهرطقات حُرمت في المجمع المسكوني السابع، لذلك فقرارات المجامع المسكونيّة السبعة كافية لنا وخاصّةً المجمع السابع. لهذا نحن نفرح اليوم ونحتفل بانتصار الأرثوذكسيّة التي عُبِّر عنها وثُبِتت في المجمع المسكوني السابع.

 

المرجع:

http://orthochristian.com/69039.html