الظهور الإلهيّ

القديس نيقولاي فيليميروفيتش

ترجمة: ماهر سلّوم

 

عندما أصبح ربُّنا في الثلاثين من عُمْر وِلادته بالجسد، بدأ تَعليمه وعَمَله الخَلاصيّ. هو بِذاته أشار إلى "بدء الإبتداء” هذا في معموديّته في نهر الأردن.

 

يقول القديس كيرلّس الأورشليمي: “بدء العالم حصل في المياه؛ بدء الإنجيل (البشارة السارّة) حصل في الأردن.” عندما اعتمد ربّنا في المياه، أُعلِنَ ذلك السر للعالم: ذلك السر الذي تنبّأ به العهد القديم؛ السر الذي كان فقط سلسلة من الأساطير في مصر والهند، أعني سر الثالوث الإلهي المقدّس.

 

لقد اُعلِن الآب لِحاسّة السمع، والروح لِحاسّة البصر، وبالإضافة إلى هذين، اُعلِن الإبن لِحاسّة اللَّمْس. تَفَوَّه الآب بشهادته عن الإبن، اعتمد الإبن في المياه ورفرف الروح القدس بشكل حمامة فوق المياه. عندما شهد يوحنا المعمدان وقال عن المسيح: “هوذا حمل الله الحامل خطايا العالم” (يوحنا 29:1)، وعندما غطّس يوحنا الرب وعَمّده في الأردن، ظهرت مهمّة المسيح في العالم وطريق خلاصنا. بمعنى آخر، حمل الرب خطايا البشريّة ومات تحتها (بالتغطيس) وأصبح حيّاً مُجَدَّداً (الخروج من المياه)؛ ويجب علينا نحن أن نُميت الإنسان العتيق الخاطئ ونحيا مُجَدَّداً مُطَهَّرين ومُجَدَّدين. هذا هو المخلّص وهذا طريق خلاصه.

 

يُسَمّى عيد الظهور الإلهيّ أيضاً بعيد الأستنارة. إن حادثة نهر الأردن هي مُنيرة بالنسبة لنا، فهي تُظهر لنا الله ثالوثاً متساوياً في الجوهر وغير منقسم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى: كل واحد منّا هو مستنير بمعموديّة المياه، فإننا نصبح أبناء أب الأنوار بالتبنّي من خلال عمل الإبن الخلاصي وقوة الروح القدس.

 

نشيد مديح للثالوث القدوس:

أيها الرب القدوس، القدوس في الخلق،

تُقَدِّس بِروحك جميع ما تخلق بكلمتك.

أيها الرب القوي، القوي في طول الأناة،

للعالم الذي تسلك حتى الموت، للعالم الذي تُقيم.

أيها الرب الذي لا يموت نسبّحك بالصوت؛

أيها ألآب والإبن والروح القدس – الإله، إرحمنا!

الآب، الذي ظهر في الأردن كصوتٍ،

الروح الذي رفرف بهيئة حمامة بيضاء،

الإبن الذي اعتمد على يد النبي يوحنا،

شعاع مثلّث الضياء، ظاهرٌ في نور واحد،

الثالوث المُتَجَلّي، نسبّحك بالصوت:

أيها ألآب والإبن والروح القدس – الإله، إرحمنا!

 

سر الثالوث القدوس:

“فَإِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ فِي ٱلسَّمَاءِ هُمْ ثَلَاثَةٌ: ٱلْآبُ، وَٱلْكَلِمَةُ، وَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ. وَهَؤُلَاءِ ٱلثَّلَاثَةُ هُمْ وَاحِدٌ. وَٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ فِي ٱلْأَرْضِ هُمْ ثَلَاثَةٌ: ٱلرُّوحُ، وَٱلْمَاءُ، وَٱلدَّمُ. وَٱلثَّلَاثَةُ هُمْ فِي ٱلْوَاحِدِ.” (1 يوحنا 7:5-8).

 

عندما نقرأ الكتاب المقدّس، علينا أن نكون مُتَيَقِّظين وننتبه لكل كلمة. على سبيل المثال، التمييز الذي يستنتجه الإنجيلي بين الثالوث السماوي والثالوث الأرضي لا يبدو واضحاً للقارئ السريع. يقول عن الثالوث السماوي: “وهؤلاء الثلاثة هم واحد”، ويقول عن الثالوث الأرضي: “والثلاثة هم في الواحد”. هناك فرق كبير بين "أن يكونوا واحداً” و"أن يكونوا في الواحد”. الآب والإبن والروح القدس هم واحد، بينما الروح والمياه والدم هم مجتمعون سويّة فقط في واحد وليسوا واحداً. حتى الأعداء يمكن لهم أن يكونوا مجتمعين سويّة، لكنهم ليسوا واحداً. كل شعوب الأرض هم مجتمعون سويّة لكنهم ليسوا واحداً. يشكّل الماء والدم الجسد والروح هو الروح. “لِأَنَّ ٱلْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ ٱلرُّوحِ وَٱلرُّوحُ ضِدَّ ٱلْجَسَدِ” (غلاطية 17:5). لكنهم ليسوا واحداً، رغم أنهم ما زالوا مجتمعين سويّة. عندما يموت الإنسان، تزول هذه السويّة من الوجود. يذهب الماء والدم في جهة ويذهب الروح في جهة أخرى. بينما الثالوث القدوس السماوي ليسوا فقط مجتمعين سويّة لكنهم واحد أيضاً.

 

هناك ثالوث آخر في سماء الإنسان الداخلية وهو لا يجب أن يكون وحدة فحسب، بل وحدانيّة كي يكون الإنسان مُبارَكاً في هذا العالم وفي العالم الآخر. تلك هي وحدة الذهن والقلب والمشيئة. طالما هؤلاء الثلاثة هم في اجتماع وسويّة فقط، سيكون الإنسان في حرب وصراع مع ذاته ومع الثالوث السماوي. لكن عندما يصبح هؤلاء الثلاثة واحداً، بحيث لا يتسلّط أحد ولا يُسْتَعبَد أحد، يصبح الإنسان مملوءاً من "سَلَامُ ٱللهِ ٱلَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْلٍ” (فيليبي 7:4)، أي السلام الذي يفوق على كل كلمات الإنسان وعلى كل خوف وحزن. حينها تبدأ السماء المُصَغَّرة في الإنسان بمشابهة سماء الله العظيمة وتظهر حينها "صورة الله ومثاله” جَلِيّاً في الإنسان.

 

أيها الإله لمثلّث الأقانيم، هب لنا بالأقلّ أن نشابه مُماثِليك. لك المجد والشكر دائماً. آمين.

 

 

http://www.johnsanidopoulos.com/2011/01/st-nikolai-velimirovich-on-holy.html